الاثنين، 2 أبريل 2018

ذاتُ الغرابة جدًّا( الجُزء الأوّل) ق :الاديبة الشاعرة نسرين وله : مجلة اقلام بلا حدود: منتدى اصدقاء اقلام بلا حدود : :وصفحة مجلة اقلام بلا حدود 2018:@حقوق النشر والتوثيق محفوظة /2018

 

ذاتُ الغرابة جدًّا




إنّ ثمّة رجالاً يُجهدون أنفسهم في سبيل اِستخراج ثروات الأرض الباطنيّة من معادن نفيسة، أمّا السيّد هارون فقد كانت مجهوداته جُلّها مصروفة على استدرار العواطف لا غير. وكان الحُبّ هو معوله الأوّل والأخير في الحياة، فيما كان التّعب النّفسيّ هو منجمه الوحيد. ومنذ أن اعتبر أنّ كنزه الحقيقيّ يكمن في تلك المشاعر الغزيرة الصّافية والنّبيلة الّتي ينالها من النّاس، كفّ عن السّعي خلف تكديس الأموال، وأصبح يركض ركضًا وراء فراشات قلبه كطفلٍ بريءٍ لا يفهم من لغة المشاعر سوى تلك الابتسامة الطّافحة من أعماقه على نحو لا إراديّ تلقائيّ بحت.

وكان هارون بتركيبته النفسيّة الميّالة إلى الأحاسيس الجيّاشة أوّابًا إلى اِستئصال أكبر كمّ من الهموم من الأجساد المحزونة. كان يهب قلبه وسمعه وفؤاده من دون مقابل ودونما أيّ منفعة ذاتيّة. لقد كان يُقدّس المحبّة بين النّاس ويُجلّها، كذا هو هارون باختصار شديد. 
وذات لحظة من لحظات عمره وجد نفسه في مغامرة غريبة. كان مُستلقيًا على ظهره تحت ظلّ شجرة عتيقة مجهولة، خائر القوى، بنصف وعي.
كان يُحاول أن يستعيد جسمه الّذي ضعف فجأة من دون سابق إشعار، بينما لم تتوقّف نظراته على الحملقة هنا وهناك وفيما حوله. أمّا عقله فقد كان يجدّ في فكّ رموز ما تلتقطه عدسة العين من صور لم يسبق أن تعرّض لها في الماضي. يا لها من أحجية ! بل متاهة ! لا، لا، لعلّه إزاء سحر ما !
هل تحوّل من عالم البشر العلويّ المرئيّ إلى عالم الجنّ السّفليّ غير المرئيّ؟ ومن تكون تلك المرأة الّتي تمتدّ بقدّها الرّشيق على بعد خطوات قليلة منه والّتي يظهر منها قفاها وشعرها الأشقر المنسدل على ثوبها الأبيض شديد النّصاعة ؟! أيُعقل أنّها تنوي له الشّر؟ أَصحيح أنّها شعلة من الجحيم ؟
ثُمّ استدارت المرأة وبان وجهها ونصع الحقّ من سِماها. من المستحيل أن تكون خاطفته، آسِرته، قاتلته ! كذلك قالت سريرته. ذلك أنّ الرّجل قد رآى في تلك المخلوقة الجنّة. وما بين النّور وبين الظّلام هوّة عميقة، لا يبغيان. 
وبسرعة اكتساء السّماء حلّة قانية من الشّفق الأحمر عند المساء، غربت الفتاة عن ألحاظه وانتُشل ظلّها من فوق الأرض وتبدّد كُلّيًا في فضاءٍ ما أو وراء غيمة غامقة. إنّ المجهول يُحيط بهدوئه، والخوف يُخامره ويُمسك بأنفاسه. أيّ دهشة شاهقة تلك الّتي قد تخلع على المرء قنطارًا من القلق، وتيّارات من الحيرة. لا بُدّ أن تكون مُرافقة لكلّ ما يثير الحواسّ من أمور مُروّعة وغامضة.
وبعد جهدٍ جهيد، اِسترجع هارون كامل وعيه، إذْ كان عليه أن يستطلع المكان قليلاً ليعلم أنّ كلّ ما حصل له من هولٍ لم يكن سوى مُجرّد إغماء باغتَ جسده بغتةً وطرحه أرضًا كورقة ترقرقت من مضجعها وهوت متمايلة على التّربة، وأنّ تلك الفتاة أو المرأة لم تكن غير إنسانة قد أشفقت عليه لمّا كان في غياهب الأوهام. وعلى الأغلب، هي من ساعدته وركنته إلى جذع تلك الشّجرة، وسكبت على وجهه الشّاحب المُصفرّ بعضًا من قطرات الماء، فعادت الحياة تتدفّق فيه من جديدٍ.
لكن، أين اختفت تلك الرّقيقة الحسناء؟ ما أحلى ملامحها ! كان يتعيّن عليها أن تؤخّر رحيلها قليلاً بعدُ، حتّى يتسنّى له شُكرها.
يا لها من فرحة مبتورة ! أن يهبك القدر هديّة بارعة الجمال وأن يأخذها منك بلمح البصر !! تمتم صدره وغمغمت شفاهه.
ثُمّ عاد هارون إلى بيته يجرّ معه رأسًا مُثقلاً بالتّساؤل، وقلبًا بسّامًا حزينًا، وبنيةً هزيلةً منهكة.
في الغد، أعياه النّوم بل الأرق، ففارق فراشه باكرًا، وغادر المنزل على الفور. لقد كانت شهيّته مفتوحة لمعرفة ما تعجز مداركه العقليّة عن فهمه فقط.
فانطلق يحوم حول مكان الحادثة شأنه شأن المُفتّش أو المتحرّي غير أنّ المشتبه به هذه المرّة ليس من صنف المجرمين وإنّما من قائمة الملائكة. ولمّا اِستيأس،
مرّت تلك اللّطيفة الغريبة بالقرب منه. كانت تحثّ خطاها وتلتفت إلى جميع النّواحي مثلما يفعل الهارب من العدالة. وكانت أجمل من يوم أمس، كما رصدتها عيناه، تلبسُ رداءً يزيدها إشعاعًا وفتونًا. وبينما كان يتأمّل ذلك الطّيف الفالت من الشّمس نفسها، والفارَّ من الأرض ذاتها، ضاعت مُجدّدًا منه.
لقد فقدها كرّةً أخرى من دون أن يُعبّرَ عمّا يُعييه من مشاعر إعجاب وامتنان. ثُمّ صفّق الرّجل ضامًّا كفّيْ يديه إلي بعضهما البعض حسرةً و قال: هذا الانبهار لا ينطفئ، لا يتبدّد مع كل نظرة، عنيف، متمرّد، هائل بوسع السّماء كُلّها! قولي من أنتِ فقط و سأمضي على بساط الجمر و أقطف لك ورودَ الدُّنيا و أجعلها حولك!
كُلّ ما فيكِ عميق، عظيم ، يَجذبُ العين و القلب على حدّ السّواء، يا ذات الغرابة جدًّا !!
و إن كنت لغزًا شاهقًا ، فأنا هاوٍ ، و هوايتي صيدُ الألغاز....
نسرين ولها 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق