الاثنين، 2 أبريل 2018

ذاتُ الغرابة ..الجُزء الثّاني :الاديبة الشاعرة نسرين ولها : مجلة اقلام بلا حدود: منتدى اصدقاء اقلام بلا حدود : :وصفحة مجلة اقلام بلا حدود 2018:@حقوق النشر والتوثيق محفوظة /2018



ذاتُ الغرابة ..الجُزء الثّاني




 في اليوم الموالي، نهض البطلُ على صياح ديك جاره. كانت علامة خيرٍ حسب مُعتقداته، استبشرت لها نفسه ولمعت بسماعها أحداقه. وكان الفجر، وقتها، يعزم على الرّحيل مثلما يعزم هارون على المُضيّ في نفس طريق الأمس بمنتهى الدّقة و الإصرار.
 وبعد مرور ساعات من العناء، شرعت أشعّة الشّمس في الانطواء تحت أجنحة اللّيل شيئًا، ولكنّ هارون لم يضيّع الأمل أبدًا، ومازال واقفًا في ذلك المكان الّذي يؤديّ إلى الغابة مُباشرةً وبيده مشعل صغير يتلاعب بدخانه الضّباب فيجعله يتشنّجُ حينًا وينقبضُ حينًا آخر.
 ومن حسن حظّه أنّ ملك الحُبّ لا يتفنّن في تعذيبه، فكلُمّا تقطّعت به السّبل، أمسك خيط نجاته بعد كلّ انقطاع، وبانت تلك الغريبة هي وحركاتها الرّشيقة وسيرها البارع. وفي هذه الأثناء، كانت الطّرقات تزدادُ سوادًا وخلاءً. 
 وانساق هارون وراءها في هذه الأزقّة المتشعّبة والشّاحبة. وكانت الفتاة تعبر به من درب غامض إلى آخر. وكاد يضيع في إحدى المسالك المُخبّلة، كما يُخيّل إليه أنّها تقوم بتضليله تارةً وأنّها تودّ الانفراد به على حدة تارةً أخرى. لقد سلّمها حياته مُنذ أن أطلق العنان لقدميه كي تتّبعَا خطوات تلك العجيبة حتّى وإنْ كانت نهاية السيّر الموت نفسه. والواقع أنّه ليس بارعًا في اقتفاء الأثر دون أن يُثير أيّ ضجّة أو يلفت النّظر. فقد كان يُعمل قلبه لا عقله، والعواطف غالبًا ما تُضعف اتّزان الفكر و صوابه في المواقف الصّعبة. ولمّا أحسّت ذاتُ الغرابة بوجوده ورأت ظلّه الأسود المعكوس على الأرض، ارتبكت سُرعتها واضطربت حركاتها حينًا، غير أنّها كانت أكثر شجاعةً من أن تستسلم للخوف، فتابعت طريقها وهي تُفكّر في خُطّة لإلهائه. ودفع انتباهها هارون إلى التّريّث قليلاً، وبدأ يُخفي خياله عنها 
 ويُراقبها من مسافة أبعد قليلاً من قبل. وفي غمرة من غِمار تأمّلاته الثّاقبة، أرسل كائن ما صرخة فزع وجلجل بها سكون المكان عند مفرق شارع مجهول، فتشتّت وجهته، وغيّبها عن نظره للمرّة الثّالثة.
 كان الفضاء، ساعتها، دامسًا كأنّه غارقٌ في الظّلمات. وكانت الرّؤية عصيبة لولا ذلك النّور الخافت الذي يُثيره مصباح ما. فأعجل الخُطى إلى ذلك الشّعاع الأصفر، وإذا به أمام مسرح دراميّ لشخصيّات لا توحي له بالاطمئنان أبدًا. المرأة الغريبة وذلك المُسدّس الذي يُلاصق قبضة يدها وأنفاسها المتلاطمة وتكشيرتها المتمرّدة من جهةٍ، ورجلان غليظان رثّان يُمسكان بأكياس ثقيلة، وحده الله أعلم بما في داخلها، وجفونهما المفتوحة انفتاحًا فذًّا، واللّوحان الخشبيّان الملفوفان بخرق مفتولة من زيت اللّذان يرفعانهما في وجه الجميلة، من جهةٍ أخرى. أهو تُجاه فِلْم بوليسيّ؟ حسنًا، ومن هو المخرج؟ وأين يختبئ فريق العمل؟ كلاّ، إنّه مشهد واقعيّ ومُريع !
 ونحا هارون بجرأة إلى المرأة، فالتفتت إليه نصف التفاتة وأمرته بنبرة حادّة أنْ لا يُقحم نفسه ويبقى بعيدًا هادئًا. 
 لكنّه لم يتراجع، ولم يهرب، ولم يتقدّم خطوة واحدة. فكأنّما قد تجمّد في مكانه فيما كان يُحلّل في رأسه الصّورة المركبّة لتلك الحسناء التّي تجمع بين الحلاوة و القسوة. وفجأة، صاحت الفتاة مُستعملة أقصى طبقاتها الصّوتيّة: " اِخفضَا المشاعل واستسلمَا على الفور" ثُمّ أطلقت رصاصات اِنذار في الهواء، زعزعت بصداها القلوب. يبدو أنّها بمنتهى الجديّة ولا نيّة لها في الجدال أو الأخذ والردّ. وحينما أدرك المُجرمان أنّهما الحلقة الأضعف، وأنّ ذلك الرّجل الذي يتسمّر أمامهما يُعزّز تلك الباسقة بجسدها القويّ، ألقيَا قنديليهما الباليين أرضًا على بعد أمتار منهم، فانطفأ ضوء المسرح البسيط وانطلق الرّجلان جريًا نحو الحريّة يلتهمان الأكسجين اِلتهامًا.

 ..نسرين ولها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق